فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب، متأسفًا على بعده.
ساعيًا في أسباب قربه، باقيًا على عافية ربه، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه.
أخبر أنهم على غير ذلك بقوله: {وجعلنا} أي بعظمتنا {قلوبهم قاسية} أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية، لأن الذهب الخالص يكون لينًا، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة، وكل لين قابل للصلاح بسهولة، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله: {يحرّفون الكلم} أي يجددون كل وقت تحريفه {عن مواضعه} فإنهم كلما وجدوا شيئًا من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم، فهم يحرفون الكلم ومعانيها.
ولما كانوا قد تركوا أصلًا ورأسًا ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه، قال معبرًا بالماضي إعلامًا بحرمهم بالبراءة من ذلك: {ونسوا حظًا} أي نصيبًا نافعًا معليًا لهم {مما ذكروا به} أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية.
ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم، تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال: {ولا تزال} أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق! {تطلع} أي تظهر ظهورًا بليغًا {على خائنة} أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و{منهم} أي في حقك بقصد الأذى، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم {إلا قليلًا منهم} فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صلى الله عليه وسلم قوله: {فاعف عنهم} أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه.
ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال: {واصفح} أي وأعرض عن ذلك أصلًا ورأسًا، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم، فإن ذلك إحسان منك، وإذا أحسنت أحبك الله: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {يحب المحسنين} وذلك- كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم وفي رواية للبخاري: إنه رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقًا- حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وذلك أشد السحر، ثم إن الله تعالى شفاه وأعلمه أن السحر في بئر ذروان، فقالت له عائشة رضي الله عنها: أفلا أخرجته؟ فقال: لا، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرًا، فأمر بها فدفنت، وهو في معجم الطبراني الكبير- وهذا لفظه- ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن النسائي الكبرى ومسند عبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كان رجل يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم.
فعقد له عقدًا فجعله في بئر رجل من الأنصار، فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال: فلان الذي يدخل عليه عقد له عقدًا فألقاه في بئر فلان الأنصاري، فلو أرسل إليه رجلًا لوجد الماء أصفر، فبعث رجلًا فأخذ العقد فحلّها فبرأ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئًا منه ولم يعاتبه»
وللشيخين عن أنس رضي الله عنه «أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك- أو قال: عليّ- قالوا: فلا تقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: إنها كانت سبب موت النبي صلى الله عيله وسلم بانقطاع أبهره الشريف منها بعد سنين»
وفي سنن أبي داود من وجه مرسل أنه قتل اليهودية.
والأول هو الصحيح، وسيأتي لهذا الحديث ذكر في هذه السورة عند {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67]، فهذا غاية العفو والإحسان امتثالًا لأمر الله سبحانه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في نقضهم الميثاق وجوه:
الأول: بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء.
الثاني: بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
الثالث: مجموع هذه الأمور. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم ميثاقهم، «ما» زائدة للتوكيد، عن قَتَادة وسائر أهل العلم؛ وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد؛ كما قال:
لِشيء ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسودُ

فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. اهـ.

.قال الفخر:

في تفسير «اللعن» وجوه:
الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخرجناهم من رحمتنا.
الثاني: قال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير.
قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{لَعنَّاهُمْ} قال ابن عباس: عذّبناهم بالجِزية.
وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ.
عطاء: أبعدناهم؛ واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالًا وانضمامًا، فالباء سببية، و«ما» مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى: {لَّعَنَهُمُ} أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم قاله عطاء وجماعة وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق «نفس» اللعن والنقض بأن يقال مثلًا: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ حمزة والكسائي {قسية} بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية، والباقون بالألف والتخفيف، وفي قوله: {قسية} وجهان:
أحدهما: أن تكون القسية بمعنى القاسية إلا أن القسي أبلغ من القاسي، كما يقال: قادر وقدير، وعالم وعليم، وشاهد وشهيد، فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي، الثاني: أنه مأخوذ من قولهم: درهم قسي على وزن شقي، أي فاسد رديء.
قال صاحب الكشاف وهو أيضًا من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة، وقرئ {قسية} بكسر القاف للإتباع. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي صُلبة لا تَعِي خيرًا ولا تفعله؛ والقاسية والعاتية بمعنى واحد.
وقرأ الكِسائي وحمزة: {قَسِيَّة} بتشديد الياء من غير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود والنَّخَعِيّ ويحيى بن وثّاب.
والعام القَسِيّ الشديد الذي لا مطر فيه.
وقيل: هو من الدّراهم القَسِيّات أي الفاسدة الرديئة؛ فمعنى «قَسِيَّة» على هذا ليست بخالصة الإيمان، أي فيها نِفاق.
قال النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: درهم قَسِيّ إذا كان مغشوشًا بنُحاس أو غيره.
يقال: درهم قَسِيّ «مخفف السين مشدّد الياء» مثال شقِيّ أي زائف؛ ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد:
لها صَوَاهِلُ في صُمِّ السِّلامِ كما ** صاح القَسِيَّاتُ في أيدِي الصيارِيفِ

يصف وقع المساحي في الحجارة.
وقال الأصمعيّ وأبو عُبيد: درهم قَسِيّ كأنه معرّب قاشيّ.
قال القُشَيْري: وهذا بعيد؛ لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القَسيّ من القسوة والشدّة أيضًا؛ لأن ما قلت نَقْرته يقسو ويصلب.
وقرأ الأعمش: {قَسِيةَ} بتخفيف الياء على وزن فَعِلة نحو عَمِية وشَجِية؛ من قَسِيَ يَقْسَى لا من قسا يقسو.
وقرأ الباقون على وزن فاعِلة؛ وهو اختيار أبي عبيد؛ وهما لغتان مثل العَلِيّة والعالية، والزّكِية والزاكية.
قال أبو جعفر النّحاس: أولى ما فيه أن تكون قَسِيّة بمعنى قاسية، إلا أن فَعِيلة أبلغ من فاعلة.
فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي؛ لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القَسِيّة التي خالطها غِش.
قال الراجز:
قد قسوت وقست لِداتي

. اهـ.

.قال الفخر:

قال أصحابنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل.
وقالت المعتزلة {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال: فلان جعل فلانًا فاسقًا وعدلًا.
ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ، وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ} يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال الجبائي المعنى: بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال. اهـ.

.قال القرطبي:

{يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يتأوّلونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوامّ.
وقيل: معناه يبدّلون حروفه.
و{يُحَرِّفُونَ} في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرّفين.
وقرأ السُّلَمِيّ والنَّخَعِيّ {الكلام} بالألف؛ وذلك أنهم غيّروا صِفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. اهـ.